الاثنين، 3 أكتوبر 2011

ثورة جدران

ثورة جدران
بقلم: د.مرفت محرم
.........................

قبل ولوجه إلى الدار، عائدا من غربته الطويلة، راح يتأمل جدرانها التي كانت مزدانة بثوبها الأبيض، مباهية بحسنها وبهائها، تلك الدار التي بناها الأجداد وحماها وحافظ عليها الأبناء والأحفاد... وما أن استعاد في رأسه شريط ذكريات الطفولة والصبا والشباب؛ حتى استوقفته تلك العبارات المتناقضة التي شوهت الحائط بمداد أسود كئيب، كلون تلك الأعوام التي قضاها في بلاد باردة، لا تعرف دفء المشاعر، ولا عمق الترابط الأسري، الذي كان يحياه هنا في هذا البيت، قبل أن تتحول حوائطه إلى ساحة عداء واستعداء، لنشر الفرقة والبغضاء...

حاول بدموعة التي انسكبت كشلال منهمر أن يزيل ما علق بالحائط من أوساخ، لكن محاولاته الحثيثة باءت بالفشل...

في الصباح استعد بكل همة لإنجاز المهمة التي لم يستطع تحقيقها بالأمس؛ فخرجت معه أسرته عن بكرة أبيها، عاقدين العزم على إزالة هذا التشوه ودرئه عن دارهم؛ فكانت المفاجأة في انتظارهم:
تحولت غيوم السماء إلى مطر غزير؛ فأزالت قشرة البياض الملوث، وشمر الطوب الأحمر عن ساعده، في مواجهة من تسول له نفسه إعادة الكرة، مرة أخرى.


السبت، 1 أكتوبر 2011

النظارة بقلم د.مرفت محرم

النظارة
بقلم د.مرفت محرم
(1)
ـ من خلف نظارته السميكة تخترق نظراته كل الحجب، سحر عيونه الذي جذبني إليه يمكن أن يجذب غيري.
ـ أتذكرين يابنت يانوال ليلة أمس عندما كنا في زيارة لبيت عمه؟
ـ يالها من جريئة ومتبجحة؛ تناديه باسم الدلع!
ـ صحيح هما أبناء عمومة، ولكن لكل شىء حدودا؛ فأنا الوحيدة التي ينبغي أن أناديه: "حسونة"
ـ ألم تلاحظي أنه كان يبادلها نظرات الإعجاب؟
ـ نعم رأيته عندما خلع نظارته وزاغ بصره نحو كل النساء الموجودات، ثم (بربش) لهن جميعا دون تمييز
ـ وهل ستصمتين بعد كل هذا؟
ـ لا لا... لابد من إجراء يحميه منهن، فلا يرى غيري.
قطع عليها حبل أفكارها جرس الباب:
ـ نعم... حاضر
تفتح، وما أن تراه حتى تندفع نحوه بالأحضان:
ـ حسونة حبيبي... وحشتني موت
ـ لم أغب عنكِ سوى دقائق!
ـ الدقيقة في بعدك سنة ياحبيبي.
يمنحها قبلة سريعة، ثم يدلف نحو الحجرة لتغيير ملابسه.
تعود لحوارها الداخلي:
ـ لم يقل لي وحشتيني يا نونة؟!
ـ بالتأكيد رأى العديد من السيدات والفتيات وهو في طريقه إلى السوبرماركت.
 (2)
استيقظ من النوم، وتناول فطوره، وارتدي ملابسه؛ شىء عجيب لاحظه عندما ارتدي نظارته؛ زغللة وعدم وضوح رؤية؛ عزم على تغيير وجهته واستشارة الطبيب قبل الذهاب لعمله...
ـ ولد ياحسين يكون عندك مرض السكر وأنت لا تعلم؟
ـ لقد أجريت تحليلا منذ أسبوع ولم يثبت هذا
ـ ترى ما السبب في تدهور حالة الإبصار؛ كل أسبوع كشف نظارة جديد؟!
أثناء صعوده سلم عمارة الطبيب ترنح فسقط على الأرض...
التف حوله الناس لمساعدته على النهوض:
ـ هذا الرجل (ملموس)؛ كان يكلم نفسه أثناء سيره!
ـ حرام عليكم ياجماعة؛ إنه رجل محترم نظره على قدره وطالع للدكتور محيى الدين
(3)

عاد إلى بيته بعد أن اتضح له أن عدسات نظارته أبدلتها زوجته بعدسات نظارتها؛ كي لايري غيرها!. 

الأحد، 4 سبتمبر 2011

خيال قارئ

خيال قارئ
بقلم الدكتورة: مرفت محرم
(1)
من غرفته التي اكتظت بالكتب والمجلات والموسوعات، صاح مهللا ومكبرا:
ـ وجدتها... وجدتها
انطلقت أمه فرحة مسرورة:
ـ اللهم اجعله خيرا، من هي يا بني، قل وأسعد قلبي
ـ وجدت المجلة الدينية التي كنت أبحث عنها.
ـ ربنا يكملك بعقلك يا بني، مجلة؟!، هذه الكتب والمجلات هي التي أفقدتك عقلك، وسلبتك وقتك وصحتك وشبابك... أريد أن أفرح بك قبل أن أموت يا أمجد.
ـ كلنا سنموت يا أمي، فهل نستعد للموت بالأفراح والليالي الملاح؟! هذه المقالة الهامة توضح أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار، إسمعي يا أمي؛ سأقرأها لكِ...
نظرت إليه أمه بأسى وحزن عميق، وذهبت لتحضر له فنجان القهوة الصباحي المعتاد، وهي تردد بتأثر شديد:
ـ ربنا ينتقم منهم الذين لحسوا عقلك...
(2)
يلتهم أمجد بعينيه المقال المنشور في مجلته الأثيرة، ويرتشف بين الفينة والفينة رشفات من فنجان قهوته، يعقبها بنفس من سيجارتة الممسك بها بين إصبعيه السبابة والوسطى، ومع انطلاق سحب الدخان، ذهب خياله بعيدا بعيدا؛ حيث شاهد الأبرار وهم يتمتعون بنعيم الجنة، والأشرار يستغيثون من عذاب النار؛ تاقت نفسه لمرافقة أهل الجنة؛ فانطلق نحو أحد أشجارها الدانية ثمارها، ليقطف واحدة منها، لكنه كلما مد يده؛ لسعته النار وأبعدته... أخذ يحدث نفسه:
ـ أنا لم أعصِ الله، ولم أقطع رحما، ولم أقصر في صلاة ولا صيام ولا زكاة، فلمَّ يعاقبني الله؟
 ظل في هذا الصراع بين محاولتة اقتطاف الثمرة، ولسعة النار التي تبعده عنها، إلى دخلت عليه أمه بفزع ورعب:

ـ لهفي عليك؛ السيجارة التهمت أصابعك يا بني. 

الأحد، 7 أغسطس 2011

الابتسامة الثالثة بقلم: د.مرفت محرم

الابتسامة الثالثة
بقلم: د.مرفت محرم

(1)
ليلى تلك الفاتنة، التي سلبت الألباب، بجمالها وسحرها الخلاب، كثر خطابها، إلى أن جاءها أحمد (زينة الشباب)، الجالس الآن بجوارها، يبادلها نظرات الحب والإعجاب، وحولهما جمع من الأهل والأصحاب، يباركون ويدعون لهما، بالسعد والإنجاب...
ووسط أجواء الفرح والسعادة، يتقدم المنلوجست كالعادة؛ ليداعبهما بكلمات، ممازحا ليلى بالذات:
ـ ماذا تفعلين لو دخل عليك الأستاذ أحمد في يوم من مقبل الأيام، وهو يحمل طفلا من زواج ثانٍ؟
أجابته باطمئنان وبابتسامة ساخرة، معبرة عن شعورها بأن هذه المزحة جائرة...
وراحت تحدث نفسها، مباهية بجمالها الفتان، والذي لايجاريها فيه إلا الحور الحسان:
ـ إن ما يقوله هذا المأفون، هو ضرب من العبث والجنون!.
وما تلبث أن تستجيب ليد عريسها الحنون، فتقوم، وتغادر معه المكان، وينطلق العصفوران؛ ليحلقا في سماء الحب والانسجام، بعيدا عن عيون الصحب والخلان.
(2)
بعد سنوات من زواج سعيد، هاهي ليلى تقبل من بعيد ملبية حاجات الصغار، منشغلة عن زوجها، بتربية أولادها، وبطهيها وغسيلها ونظافة بيتها...
فلم يجد بدا من قتل وقته، وشغل ذهنه وعقله؛ بالقراءة والاطلاع، والمشاهدة والاستماع، إلى أن هداه تفكيره للولوج إلى الشبكة العنكبوتية؛ فدلف إليها، ونبض قلبه بحب جديد، ظل طي الكتمان لسنوات...
لعب الشك برأس زوجته، عندما لاحظت تكرار غيبته، وطولها، بعيدا عنها وعن أولادها؛ فبدأت تحاور نفسها:
ـ أين ذهبت كلمات الحب التي كان يمطرني بها؛ فيرتوي عطشي، وتنتعش أنوثتي... إن جمالي وحسني لم يتبدلا، هو الذي تغير، وأصبح لا يطيق الوجود في المنزل!.
مر برأسها شريط الذكريات، وبرزت كلمات المنلوجست:
ـ ماذا تفعلين لو دخل عليك بطفل من زواج ثان؟
حينئذ اعترتها ابتسامة أخرى، وعزمت على...
(3)
الطرق على الباب شديد، وجرس الباب بغير انقطاع؛ هرولت ملبية من بعيد بقلق وارتياع:
ـ حاضر... حاضر
فوجئت بزوجها يحمل طفلا، ويتمتم بعبارت ليست همسا:
ـ هربت الملعونة إلى بلادها، وسرقت أموالي كلها!... سامحيني يا حبيبتي...

لم تنطق ببنت شفة، وأفصح وجهها عن ابتسامة ثالثة، ثم سقطت مغشيا عليها.

المنتقبة بقلم: د.مرفت محرم

المنتقبة
بقلم: د.مرفت محرم
(1)
عرفته الملاهي الليلية؛ بصورته المخفية، خلف ستار من وقار وهيبة، يخفي وراءه خيبة السعي نحو ملذات شهوانية، ومتع دنية.
يأتيها كل ليلة وجيبه ملآن، فيفرغه الشيطان، في كؤوس الخمور، والغيد الحسان؛ ثم يعود لبيته من جديد، في حالة من السكر، والإعياء الشديد.
لم يكن منصور، إلا رجل أعمال مشهور، جافته أمواله الطائلة؛ فسعت به نحو متع وقتية زائلة.
(2)
لم يحقق منصور مبتغاه؛ فخرج من ملهاه، باحثا عن صيد آخر، في غير تلك المواخر؛ شاهد فتاة منتقبة؛ فجذبه الشوق، لجسدها الممشوق، واقترب الصائد من صيده، ملقيا حولها شِباك حبه؛ فعبرت بدلال عن دهشتها لجرأته.
(3)
دعاها لركوب سيارته الفارهة؛ رفضت بإباء، طالبة الاكتفاء بركوب التاكسي؛ خشية أن تترصدها عيون الرقباء؛ كما أن منزلها في منطقة شعبية، لا تستوعب حواريها العشوائية، دخول سيارته المرسيديسية.
(4)
جلس إلى جوارها على الكرسي الخلفي، ممنيا النفس الأمارة؛ بسعادة لا تسعها تلك الحارة.
وقبل الوصول؛ توقف السائق وهو في حالة ارتباك، تقدم شابان وأمرا منصور بالنزول، وهما يصيحان في وجهه الأصفر الشاحب:
ـ كيف تجرؤ على اختطاف شقيقتنا الملتزمة أيها المنحل الساقط؟
قبل أن يجيب، جذباه من جديد، وجرداه من ثيابه، وربطاه في شجرة جفت أغصانها، وتساقطت أوراقها.
ثم انطلقوا بسيارتهم التاكسي؛ نحو صيد آخر.


الأحد، 3 يوليو 2011

طريق الأحزان بقلم الدكتورة: مرفت محرم

طريق الأحزان
بقلم الدكتورة: مرفت محرم
................................
أسمال بالية تتهدل على جسد شبحي، يسير نحو المقابر في جنازة انفرادية، على قدمين نحيلين بخطى منهكة...
رغم رهبة الموقف؛ استجمعت شجاعتي واقتربت، لم تَحُل عتمة الغروب دون الرؤية الواضحة:
إنها سيدة لا يتجاوز عمرها العقد الثالث، إلا بعقد حاجبين، وشحوب وجه، وذبول عينين، وبياض شعر، وقرون بؤس، وأحقاب حزن...
لم تُعر وجودي اهتماما؛ فنظراتها متجهة صوب المجهول، وخطاها تقودها نحو حفرة عميقة، صنعها اللصوص لإخفاء مسروقاتهم...
ـ يا إلهي
هكذا صرخت حين شاهدتها تلقي بنفسها فيها، ثم تتمدد، وتغمض عينيها، وتتمتم بالشهادة في وهن.
قبل أن أرى دموع فراقها؛ جرفني نحوها سيل الألم، ولهفة المعرفة، ورغبة المساعدة.
ألقيت سترتي على جسدها المرتعش، طمأنتها:
ـ أختاه، أتدفنين نفسكِ بالحياة؟!
شرعت نافذة عينيها للفضاء، وتبسمت ابتسامة بلهاء، وراحت تقص شريط معرض ذكرياتها:
اللوحة الأولى:
طفلة تبحث بين الأنقاض عن لعبتها التي فقدت، تجدها، تنطلق فرحة بها، تنادي على أمها:
ـ أماه... الحمد لله؛ وجدتها يا أماه...
تربت على كتفها الضعيف أيادي الجيران، وتصوب نحو وجهها البريء نظرات شفقة...
اللوحة الثانية:
صبية تنهكها زوجة والدها في أعمال المنزل، وأب تنهكه بالعمل خارجه...
اللوحة الثالثة:
فتاة تحلم بفارس أحلامها؛ فيزوجونها لعجوز يفترسها، ثم يرحل، مبقيا تركته المثقلة في بطنها...
اللوحة الرابعة:
امرأة فقدت عائلها، وتعول طفلتها، سلكت الطريق الحلال ـ الذي لا تعرف غيره ـ  تبيع بضاعتها لنساء الحي، وفي زمن الحرب، كسدت تجارتها، تعسرت في سداد ديونها...
اللوحة الخامسة:
(خائنة أمانة) يقتادونها إلى السجن لتقضي عقوبتها، توصي جارتها خيرا بابنتها، تقبلها، وتمضي تاركة معها قلبها...
اللوحة السادسة:
شبح يخرج من باب السجن، يتجه نحو البيت بشوق العودة، ورؤية الإبنة، فتعلم أنهم زوجوها وهي طفلة لثري خليجي، مات عنها، وانقطعت أخبارها...
حينئذ أدركت حقيقة مأساتها؛ مددت يدي إليها لتنهض معي، لكن شمسها غربت. 

كيميا التغيير بقلم: د.مرفت محرم

كيميا التغيير
بقلم: د.مرفت محرم

ضاق صدره بالحنين للوطن، وفاضت أبحاثه بالنتائج المهمة في مجال علاج أمراضه المتوطنة؛ فحان موعد لقاء الدكتور صلاح مع محبوبته التي قضي عشر سنوات في الغربة لأجل عيونها، ساعيا للقضاء على المعاناة الصحية لأبنائها، بغية استعادة حسنها وبهائها، وحلاوة روحها وخفة دمها، تلك الروح اللطيفة الفكهة المرحة، الطيبة المسالمة الوديعة، التي اشتاق إليها اشتياق المتيم لمعشوقته.

ما أن وطأت قدميه أرض الوطن حتى استقبلته شمسها الساطعة؛ لتزيح عنه برودة الغربة التي جمدت أوصاله وشراينه؛ فأحسنت استقباله بالدفء والحنان، والتحية والابتسام.
غير أنه لاحظ تغير سمت الوجوه؛ فأضحت باهتة ابتسامتها، زائغة نظراتها، تائهة أفكارها؛ كاد يسأل شقيقه الذي كان في انتظاره، فلم يجبه، ومضى بصحبته ليستقلا السيارة في طريقهما إلى البيت.

لم ينتبها لمن كانوا يراقبوهما من بعيد، أثناء نزولهما من السيارة وإنزالهما للحقائب والأغراض؛ فقد شغلهما استقبال (لوسي) للعائد الحبيب، ومرافقتها له حتى دخل بخطى رشيقة إلى حجرات بيته؛ ليستنشق أريج الذكريات، ويخلد إلى الراحة في أحضان فراشه الوثير؛ ليحلم بالاستفادة من نتائج أبحاثه في القضاء على المرض المتوطن، الذي أودى بحياة والديه منذ سنوات. 

في الصباح راح ينادي عليها؛ اصطدمت عيونه بنظرات شقيقة، الذي صمت، ثم أجهش بالبكاء.
ـ أقلقتني... ماذا دهاها؟!
ـ لقد منعتهم من السرقة؛ فمنعوها من الحياة؛ أطاحوا برقبتها ومزقوا جسدها إربا، ولم يبق إلا الذيل.


حزم الدكتور صلاح حقائبه، وعقد عزمه، على إجراء أبحاث لمحاربة الفيروس الجديد. 

الأحد، 5 يونيو 2011

ألوان الغضب بقلم: د.مرفت محرم

ألوان الغضب
بقلم: د.مرفت محرم
(1)
عبر الأفق اللا محدود تتلاقى زرقة البحر مع زرقة السماء، في لقاء حميمي، ينجب لوحة بديعة من لوحات الطبيعة؛ فتتهادى الأمواج بسحرها الخلاب؛ مداعبة بمدها أرجل الجالسين على الشاطئ، داعيتهم بجزرها للتمتع بالسباحة في مياهها الجذابة... والشمس ترسل أشعتها الذهبية، على الرمال الصفراء؛ فيحتمي منها الجالسون بمظلات ذات ألوان مبهجة، وتكتمل اللوحة بالنسيم العليل الذي يداعبهم، ويبعث في نفوسهم البشر والسعادة، وفي أجسادهم الحيوية والنشاط...
على مقربة من أسرة الأستاذ صابر حيث تتعالى الضحكات الوردية، والمداعبات الودية، والفرح والمرح؛ انطلق الأولاد إلى مياه البحر؛ يسبحون ويتقاذفون الكرة...
(2)
فجأة وعلى غير توقع؛ اختفت الشمس خلف سحب كثيفة سوداء، وأظلمت السماء، وثارت العواصف؛ فأطاحت بالمظلات وتناثرت الرمال، وهاجت الأمواج؛ فتعالى الصراخ، والصيحات للمناداة على الأولاد وسط حالة من العتمة التي حالت بينهم وبين ذويهم؛ فارتسمت على وجوههم علامات الحزن، وألوان الغضب.

الأحد، 15 مايو 2011

طوق النجاة

بقلم: د.مرفت محرم
في شموخ وكبرياء، تتأهب (أحلام) للإبحار من ميناء الأسكندرية إلى ميناء جنوة، كعروس مزدانة بأبهي حللها، رافعة فوق رأسها علم بلادها.
يصوب الركاب أنظارهم نحو السفينة التي ستقلهم، مستمدين من اسمها الخلاب (أحلام) سحر أحلامهم التي ينون تحقيقها، بتلك الرحلة الترفيهية لبلاد العشق والسحر والجمال، وما أن سمح لهم طاقم الباخرة بالصعود؛ حتى اندفعوا اندفاع الصقور نحو الفريسة؛ فكاد البعض يقع نتيجة التدافع، وسقطت بعض الأمتعة، وارتفعت الصيحات والشتائم، وسادت حالة من الهرج والمرج، لم تنته إلا بحضور القبطان للاطمئنان عليهم، والتأكد من عدم تخلف أحد منهم...
ودعت (أحلام) شاطئ أحلامها، على أمل العودة، وانطلقت تمخر عباب البحر، الذي يبادلها عشقا بعشق، وبعد أن ارتفع صوت القبطان بالتحية، ودعاء السفر؛ بدأ البرنامج اليومي؛ حيث صعد معظم الركاب إلى سطح السفينة؛ للمشاركة في فقراتها الترفيهية، وتناول الوجبات والمشروبات، والاستمتاع بجمال الطبيعة؛ جوها البديع، وسحرها الأخاذ... وطيور النورس تهبط وتعلو في أسراب متفرقة تلتقط رزقها، في إخاء وتواد، غير هذا الذي ساد بين العباد وهم على أبواب سفينتهم.
مضى اليوم الأول وأضحوا على مقربة من منتصف المسافة، وكل منهم تتعلق آماله بين شاطئ غادره، وشاطئ يترقب الوصول إليه، وتتوالى الأماني والأحلام، وتنطلق إلى الورقة والقلم؛ فيسجل كل منهم برنامجه القادم وزياراته المرتقبة لمدينة روما...
فجأة يرتفع صوت القبطان، محذرا من عاصفة قوية قادمة من الشمال  مصدرا أوامره  بنزول الركاب إلى كبائنهم؛ هرول الجميع في وقت واحد على ذات النحو الذي صعدوا فيه إلى الباخرة، وهم في حالة من الهلع والارتباك، وماهي إلا لحظات حتى بدأت الأمواج تعلو وتهدد السفينة بالغرق
ـ من الضروري التخفف من الأحمال والأثقال...
هكذا أمر القبطان، وحذر من التوان في الالتزام بما يراه، وهكذا التزم الجميع فألقوا بأمتعتهم وأغراضهم، رغبة في النجاة...  
لكن شيئا ما ظل يثقلها ويساعد على سرعة غرقها؛ انتبه إليه القبطان، ووجه لهم نداءه الأخير:
ـ أفرغوا ما في نفوسكم وقلوبكم من حقد وغل وشر وقسوة، وألقوه في البحر... أسرعوا أسرعوا إنها تغرق إنها تعرق.
فجأة يعلو صوته مستيقظا من قسوة الكابوس اللعين.   


الأحد، 1 مايو 2011

زمزم بقلم د.مرفت محرم

زمزم
بقلم د.مرفت محرم

(1)
المنزل الذي خيم عليه السكون والحزن أياما وليالٍ، كان في شوق للقاء صاحبه الشيخ سعيد، الذي ما إن عاد من رحلة الحج؛ حتى تهلل بشرا وسعادة، وارتدي حلة من البياض الناصع، وعقوداً متلألئة من المصابيح الملونة، وتعالت من داخله الزغاريد، وابتهجت البيوت المجاورة لبهجته، وتحولت القرية إلى عرس كبير...
جلس العريس في المندرة، مستقبلا وفود المهنئين:
ـ نورت بيتك ياحاج، حمد لله على سلامتك
ـ يوعدكم ربنا بزيارة النبي
ـ صحبه إن شاء الله...
ووقفت زوجته (أم أحمد) توزع الشربات، ومع كل كوب تنطلق الزغاريد:
ـ شكرا يا ام أحمد
ـ هنيئا، عقبال مانشرب شربات حجازك ان شاء الله.
(2)
وسط هذه الحالة من البهجة والانشراح؛ دلف أحمد إلى غرفة المسافرين، حيث توجد حقائب الهدايا، امتدت يده نحو الكرة، وصرخ فرحا:
ـ إنها الكرة التي كنت أتمناها، تشبه كرة كابتن ميمو
أخذ يركلها بقدمه لأعلى ويتلقاها برأسه مرارا، ثم مالبثت أن انطلقت الكرة رغما عنه لتصطدم بقارورة كبيرة؛ فتوقعها على الأرض، ويندلق ما بداخلها
لم تدم حالة الارتباك والقلق طويلا؛ فقد هداه تفكيره إلى حل.
(3)
ـ أم أحمد هاتِ الهدايا ووزعيها عليهم، وقبل هذا اسقيهم من ماء زمزم.
هكذا نادى الشيخ سعيد على زوجته، والتي ما إن سمعت النداء حتى انطلقت ملبية:
ـ شربوا من ماء زمزم ياحاج، والهدايا وزعها أنت بيدك حتى تحل البركة.
(4)
في صباح اليوم التالي، توافد رهط من الجيران وكل منهم يحمل قنينة فارغة:
ـ والنبي يا أم أحمد جرعة من ماء زمزم، فقد كان لها مفعول السحر في علاج ابني.
ـ والبنت بهانه شربت جرعة، بنية ان ربنا يوعدها بابن الحلال؛ جالها عريس في الحال.
ـ وزوجي من أسبوع جالس بلا عمل؛ ربنا رزقه بشغل ما كان يخطر على البال.
ـ ماء زمزم كلها بركة، روح ربنا يكرمك ياشيخ سعيد، ويجازيك عنا خير أنت وزوجتم ويخليلكم ابنكم أحمد ويبارك فيه ويتربي في عزكم يارب.
راحت أم أحمد تصب لهم من القنينة الكبيرة فيما يحملونه من قنينات.
كان أحمد يرقب المشهد من بعيد، وهو في حالة من الدهشة والاستغراب...
وما إن انصرفوا حتى همس لأمه:
إن ماشربوه وعالجهم، ورزق ابنتهم بابن الحلال، وأوجد عملا لعز الرجال؛ ليس إلا ماء من الصنبور، ملأت به القنينة الكبيرة التي أوقعتها الكرة بالأمس.

الاثنين، 10 يناير 2011

كتكوت وأم السعد

كتكوت وأم السعد
بقلم د.مرفت محرم
..............................
ذاع في القرى صيته، وعلا في الآفاق نجمه، حتى أصبح الشيخ مخلوف؛ حديث كل ملهوف؛ فتوافدت على داره ألوف البشر، من ريف وحضر...
(1)
بيت من الطوب اللبن، يعلوه أكوام من قش الأرز والحطب، بابه لا يكاد يغلق في وجه المريدين، الذين اكتظ بهم صحن الدار، فاضطر غيرهم للانتظار خارجه، مرهفين السمع لأوامر (كتكوت) الذي راح يصيح بأعلى صوت:
ـ كل واحد حسب دوره
همهم الجميع بالموافقة:
ـ صحيح يا جماعة النظام حلو...
لم تستطع سحب البخور الكثيفة المنطلقة من الداخل، أن تحجب عن رؤوس المتزاحمين خارجه، حرارة الشمس الحارقة، وهم بين جلوس على حجر، أو وقوف على مضض...
وأم السعد التي حان موعد دخولها، لم يكن حالها كما يوحي به اسمها؛ فما أن صاح كتكوت:
ـ يا الله يا أم السعد دورك هيفوت.
حتى انكمشت إرادتها، واضطرب قلبها، وارتعش جسدها، وتلعثم لسانها:
ـ أي أي أيووه ح ح حاضضر...
(2)
حجرة ضيقة تتسع بالكاد لأريكة صغيرة، وقطعة من حصير يجلس عليها الشيخ مخلوف، وأمامه قصعة بها نار موقدة يذر فيها من حين لآخر الملح والبخور، وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة...
يحدق فيها بعينيه متفحصا، وهي ما زالت واقفة بالباب، في حالة من الخشية والارتياب؛ فيطمئنها بكلمات واثقة، في قدرته على إبرائها، وتخليصها مما تعانيه؛ فيدعوها للاسترخاء التام على الطاولة، ويطلق البخور ويتمتم، ثم يطلق صيحة قوية: بحق هاروت وماروت اخرج أيها الجني من هذا الجسد، واتركه إلى غير رجعة...
ثم بدأت جلسة الضرب الخفيفة بعصاه، التي لقنها بالتعاويذ، واستمرت الجلسة ساعة، ثم أمرها بالنهوض والانصراف، ومنحها موعدا للجلسة القادمة...
(3)
ترددت أم السعد على تلك الجلسات، التي أنهك ضربها قواها، حتى جاء موعدها مع الجلسة الأخيرة، التي أكد الشيخ أنها جلسة الخلاص من هذا اللعين، ومفارقته لجسدها مفارقة أكيدة...
استمر الصراع بين مخلوف والجن العاشق، وهو لاصق بها يرفض الخروج منها؛ فاستعان الشيخ بلسعات من الكهرباء ليضيق الخناق عليه...
هي تصرخ، وهو يدعوها للتحمل، و قد تصبب عرقه، وازداد لسعه له، وحِدتَهُ معه، وظلا في صراع لما يقرب من ساعة كأنها الدهر، حتى جاءت لحظة النهاية: فيخرج الجني من عيني أم السعد، آخذا روحها معه.